02 فبراير 2013

المحامي و توثيق العقود


الأستاذ عسيلة ياسين 
محامي متمرن بهيئة الدار البيضاء

تضطلع محكمة النقض، باعتبارها أعلى هيئة قضائية، بمهمة تطوير التوثيق العصري من خلال الإسهام في بلورة القواعد العملية الكفيلة بترسيخ الممارسة السليمة لتوثيق العقود، على ضوء اجتهادات قضائية تتماشى و التحولات التي تعرفها المملكة.   
تبث محكمة النقض في النقط القانونية الخلافية للنزاع و تفسر القانون فتلزم الممارس و
المهني بإتباع قراراتها. والجدير بالذكر أن منهجية التكوين بفرنسا في مجال التوثيق تستند على دراسة و مناقشة و تحليل حالات عملية، في تعاقد معين، و إيجاد حلول للإشكالات التي تطرحها وفقا لقرارات محكمة النقض الفرنسية
و التوثيق ليس نسخ عقود انطلاقاً من نماذج جاهزة، و لكن يتعلق الأمر بمعالجة كافة الإشكالات القانونية و الضريبية من خلال الإلمام بتطور الاجتهاد القضائي و بالنصوص القانونية، لاستنباط حلول قانونية، انطلاقا من بناء منطقي متماسك
من المؤكد أن قرارات محكمة النقض هي صنعة محامين أكفاء، لأن القاضي لا يقوم غالبا إلا بالترجيح، و التوثيق كذلك هو صنعة محامين أكفاء. فالمحامون أكثر ارتباطا بمتابعة تطور الاجتهادات القضائية و التعليق عليها وفق قواعد قانونية معينة و مناقشتها نظريا و تطبيقيا بشكل موضوعي . يبرز إذن  دور المحامي  جليا في تطوير الاجتهاد القضائي من خلال تقييم مطابقة الاجتهاد السابق مع الاجتهاد اللاحق، و في الحرص على مراقبة صحة القرارات القضائية، و ضمان وحدة الاجتهادات واستقرار المعاملات القانونية
إن  مساهمة المحامي في ابتكار حلول عملية و في إبداء ملاحظات بناءة كفيل أن يؤثر في تطوير الاجتهاد القضائي و يساهم بشكل فعال في ترسيخ ممارسة سليمة للتوثيق العصري، كما أن توثيق العقود يندرج في صلب المهام الموكلة للمحامي، و هو حق مكتسب بمقتضى ظهير شريف رقم 1.08.101 صادر في 20 من شوال 1429 (20 أكتوبر 2008) بتنفيذ القانون رقم 28.08 المتعلق بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة حيث ورد في المادة 30 أن المحامي يمارس مهامه المتمثلة في تحرير العقود بمجموع تراب المملكة
إلا انه على مستوى الواقع العملي نلاحظ أن المشرع أبقى نوعا من الوصاية و الحجر على المحامي، فبهذا الخصوص نص التشريع المغربي على تصحيح الإمضاءات بالنسبة للعقود المحررة من طرفه لدى رئيس كتابة الضبط للمحكمة الابتدائية التي يمارس بدائرتها، و نصت دورية المحافظ العام الموجهة إلى المحافظين  تحت عدد 353 بتاريخ 17 مارس 2006 على إعادة تصحيح هوية الأطراف أمام الجماعة المحلية.
نعتقد أن هذه المقتضيات تشكل خرقا لمبدأ التوازي في الشكليات،  فتصحيح إمضاء المحامي من المفروض أن يكون لدى نقيب هيئة المحامين، وعقد المحامي يصبح ثابت التاريخ من يوم تصحيح الإمضاء لدى النقيب، و المحامي يكون ملزما بتصحيح هوية أطراف العقد و بإسداء واجب النصح لهم؛  و مادام العقد محرر من طرفه، فإن المحررات المتضمنة لالتزامات الأشخاص الأميين تكون فعليا لها قيمة المحررات الرسمية
على مستوى القانون المقارن يشكل عقد المحامي بديلا ممتازا نظرا لمرونته و ينص القانون المصري على أنه لا يجوز تسجيل العقود التي تبلغ قيمتها 5000 جنيه إلا إذا كان موقعا عليها من محامي مقبول للمرافعة أمام المحاكم الابتدائية، بعد مصادقة نقابة المحامين على توقيعه. كما ينص القانون السوري على انه لا يجوز تسجيل عقود الشركات إلا إذا كانت محررة من قبل محام، بعد مصادقة نقابة المحامين على توقيعه
و ينص قانون المحاماة التونسي في صيغته الجديدة على  أن المحامي يختص دون غيره بتحرير عقود تأسيس الشركات أو الترفيع أو التخفيض في رأسمالها كلما تعلق الأمر بمساهمة عيّنية أو مساهمة بأصل تجاري، كما يختص بتحرير العقود والاتفاقات الناقلة للملكية العقارية ،  والأعمال المنجزة من غير من ذكر تعد باطلة بطلانا مطلقا
خص التشريع المغربي المحـامين المقبولين للترافع أمام المجلس الأعلى بمهمة تحرير العقد الثابت التاريخ المتعلق بالحقوق العينية، وقد ورد أن جميع التصرفـات المتعلقة بنقل الملكية المشتركة أو إنشاء حقوق عينية عليها أو نقلها أو تعديلها أو إسقاطها تحـرر بموجب محرر ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف المحـامين المقبولين للترافع أمام المجلس الأعلى بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.02.298 صادر في 25 من رجب 1423 (3 أكتوبر 2002) بتنفيذ القانون رقم 18.00 المتعلق بنظام الملكية المشتركة للعقارات المبنية،  و الظهير الشريف رقم 1.11.178 صادر في 25 من ذي الحجة 1432(22 نوفمبر 2011) بتنفيذ القانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية
إعتد المشرع بمعيار الأقدمية مدة 15 سنة في تحديد المحامين المسموح لهم بتحرير العقود المتعلقة بالحقوق العينية مهدرا بذلك الضوابط العلمية المتمثلة في الشواهد المهنية و التخصص. نعتقد أن هذه المقتضيات لا تساير تطور مهنة المحاماة نحو التخصص
نقترح في هذا الإطار استنباط حلول واقعية من التشريع الفرنسي الذي كرس تطور مهنة المحاماة نحو التخصص في القانون رقم 2011- 331 الصادر بتاريخ 28 يناير 2011 المتعلق بعصرنة و تحديت المهن القانونية حيت نصت مقتضياته على تنظيم مسطرة المصادقة على التخصص المهني للمحامين و على منحهم  شهادة التخصص، كما همت مواد أخرى تنظيم إبرام عقد المحامي
مما لا شك فيه أن الموثقين المتمرنين الذين و لجوا مهنة المحاماة راكموا كفاءة و مهارة في ميدان التوثيق بحكم الدراية بشكليات العقود و بفعل الممارسة الفعلية لتحريرها و تلقيها نيابة عن الموثقين، خلال مدة تفوق أحيانا العشر سنوات. يقتضي مبدأ تكافؤ الفرص و المساواة المنصوص عليه في الدستور الاعتراف لصالحهم بالحق في تحرير التصرفات العينية لان تكوينهم ارتكز على تخصص احترافي و لأنهم حاصلين على شهادة مهنية وطنية في توثيق العقود من محكمة الاستئناف بالرباط
 يقع على كافة الفاعلين واجب اقتراح حلول عملية تتماشى مع تطور مهنة المحاماة نحو التخصص و تعتمد عقد المحامي كحل بديل لتسريع وتيرة التعاملات التجارية لأن الليبرالية الاقتصادية لا تتوافق مطلقا مع رسمية العقود و كثرة الشكليات التي تحيل على تدخل الدولة في حرية التجارة و على كبح سرعة تداول المنقولات و العقارات
نؤكد أن الدولة المغربية ملزمة بالتأهيل المتواصل لمهن توثيق العقود، و إعداد برامج مهنية تقوم على التدريب المستمر و على تبسيط إبرام  العقود
إن الكلفة المالية المرتفعة  " للتعاملات التجارية الرسمية" و بطئ المساطر ينذر بتراجع المغرب في مجال الأعمال. و في هذا الإطار أسوق مثالا حيا على ذلك عاينته سابقا كموثق متمرن: فبهدف إضفاء صفة  الرسمية على التعاملات التجارية و البنكية، يقوم الموثقون بإعادة كتابة نفس المحررات المضمنة في الورقة العرفية و يتم كذلك إعادة الإشهاد من طرفهم على نفس الإمضاءات المصححة سابقا أمام ضابط  الحالة المدنية. إن هذه الازدواجية في الإشهاد على إمضاء الأطراف أمام  الموثق و أمام ضابط الحالة المدنية تضيع و قتا طويلا عليهم. و بعد أن كانت هذه التعاملات معفاة تماما من رسم التسجيل و التنبر، أصبحت خاضعة لها بمجرد إضفاء صفة الرسمية عليها. 
الخميس 10 يناير 2013