29 يناير 2013

استقلال القضاء


مقاربة نقدية للندوة الثامنة للحوار الوطني
أكادير في11-12/01/2013
بقلم
الأستاذ: عزيز المردي
رئيس الرابطة الوطنية للنساخ القضائيين بالمغرب
عضو هيئة إدارة الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة

التقديم:
     نود في هذه المقاربة تحليل اتجاهات وأنماط التفكير والخطابات من خلال العروض التي قدمت في الندوة الثامنة للحوار الوطني وما تلاها من نقاشات أو تخريجات، مع تحديد محددات ضرورية ومنهجية لاستقلال القضاء ونحصر عناصر هذه المساهمة في الآتي:
1.   الاتجاه الموضوعي.
2.   الاتجاه الأحادي الرؤية.
3.   الاتجاه المطلبي.
4.   الاتجاه الطوباوي.
5.    محددات لاستقلال  القضاء:
ü  المحدد المفاهيمي.
ü  المحدد التموقعي.
ü  محدد المعادلة التركيبية.
ü   محدد الإرتباط والحماية الشعبية.
ü   محدد الشخص وليس الفرد.

تحليل العناصر:

1.   الاتجاه الموضوعي:
ويمثله أصحاب العروض الذين أبانوا عن  كفاءة عالية و قدرة كبيرة على تجميع المعطيات والتحليل والتشخيص وطرح البدائل، بكل موضوعية وحيادية وتوازن سواء أعضاء من الهيئة العليا أو قضاة أو نقباء يساندهم ويؤازرهم شريحة عريضة من المشاركين بمختلف أطيافهم المهنية والجمعوية. ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أنوه وبشدة بالكفاءات النسائية  اللواتي أبن عن إلمام عميق ورؤية ثاقبة ومتوازنة، ولا ضير فقد أثبتن جدارتهن بوظائفهن والأدوار التي اطلعن بها  في مسار الحوار الوطني، دونما حاجة إلى عكاز إحدى المقاربات سواء النوع أو المناصفة... للمضي بتوازن والانطلاق في الآفاق وهن :الأستاذة رجاء ناجي مكاوي أستاذة التعليم العالي والأستاذة زينب العدوي  رئيسة المجلس الجهوي للحسابات بالرباط  والأستاذة رحمة أبو رقية رئيسة جامعة الحسن الثاني بالمحمدية، عضوات بالهيئة العليا للحوار، دون إغفال أخريات قدمن عروضا أو مشاركات في ندوات أخرى. ومما تناولته العروض مفهوم استقلال القضاء. مستلزمات استقلال القضاء في الدستور الجديد برؤية تحليلية ونقدية. صلاحيات المجلس الأعلى للسلطة القضائية (تجارب مقارنة) مع عروض من تركيا وأمريكا، واسبانيا، وبلجيكا...

2.   الاتجاه الأحادي الرؤية:
ويجسده عرض عن النيابة العامة، حدت  حدوه مداخلات، حيث تم تشخيص وتحليل واقع النيابة العامة من خلال زاوية شخصية، مع البراعة في ذلك باسلوب فني يمزج بين الدعابة والنقد. إلا أن أحادية الطرح خرجت عن نطاق المعايير المتفق عليها في تقديم العروض والتي تنبني على تقديم وجهتي النظر في المسألة، لتمكين المتحاورين من التمحيص الدقيق للوجهتين، وإمكانية الترجيح على أسس موضوعية بعيدا عن الانطباعات والمزاجية. وهي وجهة  نظر معتبرة رغم أحاديتها، إلا أن البعض يحاول الاصطياد في أي اختلاف بين وجهتي نظر لاستثماره في أجندة خفية ورفع  سقف مبيعات صحفية بالارتكاز على الإثارة وجعل الاختلاف في حوار هادئ وجاد، ساحة حرب  عوض الاعتماد على الحقيقة والتفاعل الايجابي لكسب مزيد من مساحات استقطاب القراء.
3.   الاتجاه المطلبي:
وقد ترجمه عرض الودادية الحسنية للقضاة ومجموعة من المداخلات، في قالب ضمانات استقلال القاضي، بكل غيرة و مهنية، إلا أن البعض تماهى في المطالب مما أسس لاتجاه آخر من داخل الاتجاه المطلبي وهو الاتجاه الرابع.

4.   الاتجاه الطوباوي :
 وقد عبر عن هذا الإتجاه  مدخلات أكثرت من اللآت ورفعت سقف المطالب إلى أعلى سقف وصورت واقع القضاة بالمهين والدراماتيكي جدا:
لا للتأديب، لا لوزير العدل كممثل للسلطة التنفيذية، لا لممثلي الأمة، لا للإعلام، لا للتفتيش، لا للتوقيف إلا أن يكون تكوينا )من تم ايقافه يذهب للتكوين!!(. نعم للرفع من الأجور رفعا عاليا، نعم للعناية بالأبناء والأسر، نعم للتكوين المستمر، نعم لبداية مشجعة بسلفة شراء المنزل والسيارة، نعم للتقاعد المريح بل ومبالغ مالية (منح) لفتح آفاق جديدة، نعم لتحمل الدولة أخطاء القضاة، نعم للحصانة الشخصية، نعم لاستئناف الدعوى الموجهة ضد القاضي، وضرورة سيرانها في ظروف خاصة...
إن طرح جملة مطالب من زاوية الإغراق في الذاتية والمطلبية بعيدا عن منطق الواجبات والحقوق ومنطق المواطنة الصادقة، يضعف مصداقية المطالبة ويهددها رغم وجاهة المطالب.
والسؤال: ماهي ضمانات المهنية والنزاهة والحكم بالعدل وجعل المواطنين سواسية أمام القانون في موازاة مع ضمانات استقلال القضاء؟؟؟ ثم من يدفع فاتورة تلك المطالب وعلى أي أساس ومن أين؟

5.محددات منهجية لاستقلال القضاء:

محدد مفاهيمي:
إن التحديد المفاهيمي لاستقلال القضاء مرتكز أساسي لتجنيب الحوار والتداول منزلقات عديدة. إن استقلال القضاء يعني: منع التدخل في القضايا المعروضة على القضاء، بما يحرف مسار المحاكمة عن النزاهة والعدالة والإنصاف، ويعطل مبدأ جعل المواطنين سواسية أمام القانون. وعليه فالنقاش ينبغي أن ينطلق من هذا التحديد ولا يتجاوزه. والسؤال من يتدخل؟؟ لما؟؟ كيف يتم منع التأثير بالمواصفات السالفة  سياسيا، تشريعيا، قانونيا، مهنيا؟؟
وهنا نتساءل هل السلطة التنفيذية تتدخل في اتجاه التأثير في مجريات المحاكمة لكي لا تكون عادلة ومنصفة وما حدود ذلك؟ أليس التدخل المناسب في الوقت المناسب مطلوبا لصيانة وحماية المسار في اتجاه ضمان النزاهة والمحاكمة العادلة ؟؟ أليس هناك جهات تتدخل سلبيا بشكل أقوى وأعمق؟؟؟ هل ليس هناك تدخل من داخل الجهاز القضائي نفسه؟؟ هل يتمتع الجهاز القضائي بمناعة ذاتية ومضادات حيوية ضد أي فيروس مهاجم؟؟

محدد تموقعي:
      وكمدخل لهذا المحدد نطرح التساؤلات التالية: أين يتموقع القضاء في خريطة مؤسسات الدولة  ومصالحها الإستراتيجية؟؟ لماذا يتم التركيز على الفصول من 107 إلى 111 من الدستور  في الحديث والحوار حول استقلالية القضاء، ويتم القفز على  الفصل  1 و2 والفقرة الثالثة من الفصل 113 والفصل 115 والفقرة الأخيرة من الفصل 116؟؟
    إن التناول التجزيئي لقضايا كلية من شأنها تضييع الأهداف المرجوة منها. وعليه فإن تجميع الفصول ذات موضوع واحد، وتحديد الآليات الإجرائية على ضوء كلياتها أسلم منهج لتنزيل المقتضيات الدستورية. فالفصل الأول حدد طبيعة النظام الدستوري المبني على فصل السلط وتوازنها وعلى الديمقراطية والتشاركية والحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة. والفصل الثاني يحدد آلية ممارسة الأمة لسيادتها مباشرة بالإستفتاء و بصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها بالمؤسسات المنتخبة. والفصلان من القواعد الدستورية الكلية، وهذا التحديد أدق من عبارة "أحكام عامة" الواردة بالدستور، وكل الفصول التفصيلية الفرعية لا بد وان تنسجم مع مقتضياتهما لا أن تكون نشازا عنها. وعليه فالفصول 107 إلى111 فصول تفصيلية فرعية لا أخالف مقتضياتها ولكن تطبيقاتها وآليات ذلك لابد أن تحمل مواصفات الفصلين الكليين 1 و2 وإذا سلمنا بقاعدة تدرجية القوانين وتراتبيتها فمن الأولى أن نسلم بتدرج وتراتبية المقتضيات الدستورية من قواعد دستورية كلية، وقواعد دستورية تفصيلية فرعية لتجنب تضارب النصوص وفتح باب  التأويلات المتناقضة. وهنا أطرح سؤال: كيف يمكن الربط بين مقتضيات الفصل الأول المبينة أعلاه في وصفة استقلال القضاء؟؟ وماهي آلية ممارسة الأمة لسيادتها على الشأن القضائي؟ ما طبيعة الجهاز القضائي؟ هل هو ذو طبيعة تنفيذية بخصوصية خاصة؟ هل هو سلطة فوق السلط؟ ألم تشكل الفقرة الثالثة من الفصل 113 الناصة على اصدار المجلس الأعلى آراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بالعدالة بطلب من الملك أو الحكومة أو البرلمان، رغم أن عبارة "بمبادرة منه" نوع من الفرملة التي تفرغ الفصل من مضمونه، وتنتج تخريجات مخلة، والفصل 115 الذي حدد تركيبة المجلس الأعلى للقضاء أكثر من ثلثه من خارج الديمقراطية الداخلية للجهاز القضائي، والفقرة الأخيرة من الفصل 116 الذي أفرد قضاة النيابة العامة بجهة يتبعون لها دون تحديد، ألم يشكل كل هذا حدا ووئدا للحلم الطوباوي باستقلالية مثالية هلامية وتأصيلا للمناخ  الجيوسياسي الذي يعتبر المحض الطبيعي لولادة الإستقلالية  بما يشكل التوازن والتعاون والتشاركية والحكامة...؟؟؟  وإذا اتسع المجلس الأعلى لأكثر من الثلث من خارج الدائرة القضائية فلماذا لا يتسع للسلطة التنفيذية كآلية ممارسة الأمة لسيادتها عبر ممثليها؟؟ وإذا كانت السلطة التشريعية تراقب التنفيذية، والأمة تتابع وتراقب وتعاقب السلطة التشريعية من صناديق الإقتراع وباقي الأليات الديمقراطية، والكل بحراك احتجاجي اجتماعي، فالسؤال المطروح هل السلطة القضائية فوق أية مساءلة أو مراقبة ؟؟ وإن كان الجواب بلا فكيف؟؟ هل المشكل في من تسند له صلاحيات معينة ومحددة قانونا، أم المشكل في كيفية وآلية تصريف تلك الصلاحيات؟؟

محدد  المعادلة التركيبية :
من خلال العروض القيمة  التي قدمت من قبل الأجانب الأوروبيين سواء الحاضرين في الندوة أو عبر النقل المباشر(تركيا ـ أمريكا) أو السيد رئيس ديوان وزير العدل و الحريات، نستنتج تباين واختلاف الشكل الهيكلي للمؤسسة القضائية وارتباطها المباشرمن عدمه بالسلطة التنفيذية. وهنا نسجل: إذا كنا مقتنعين أشد الإقتناع بأن المنتوج القضائي بأمريكا وأوربا الغربية يتسم بالنوعية والجودة، فلماذا تختلف تركيبة المجالس العليا للقضاء بها و كذا الإرتباط المباشر من عدمه بالسلطة التنفيذية  وتبقى ماركة المنتوج  واحدة: الجودة والنجاعة؟؟ السبب هو أن هناك عناصر أخرى تشكل المعادلة التركيبية الكيمائية "chimique formule" لاستقلالية قضائهم و براءة منتوجهم القضائي. وعليه فإن اعتماد آلية النسخ الأوتوماتيكي copier-coller لاتوصل إلى سر المعادلة التركيبية ولا إلى نتيجتها. إن إعمال التفكير لاستخلاص باقي العناصر من المناخ الجيوسياسي الخاص ومن قيم الأمة وتوجهاتها وأنماط الثقافة المغربية وتوازن سلطها والترجمة الفعلية لميزان القوى في خياراتنا التشريعية والقانونية والهيكلية لضرورة ملحة وواجبة. إن إنشاء جهاز قضائي بدون رؤية سياسية واقعية وإدراك  لنوع الخصوصية وعمقها وحجم المسؤولية  جهاز بمثابة رماد ستدروه الرياح، أو "كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء"

محدد عمق الإرتباط بالحماية الشعبية:
إن الضمان الحقيقي لاستقلال السلطة القضائية ( حسب التحديد المفاهيمي هو الحماية الشعبية. وهنا أتفق مع السيد الوكيل عبد السلام العيماني، الذي افتتح عرضه عن النيابة العامة، بمقدمة فلسفية  تحدث فيها عن زوال الإقطاع وأهمية الحراك الاجتماعي الشعبي في ذلك. نعم إن الأمم تنتفض لتغير دساتيرا وقوانينا، وتؤسس لأخرى تكون ترجمة لتوجهاتها وخياراتها الجديدة السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية. وهنا نسأل ما حدود ارتباط المؤسسة القضائية  بضمير الشعب والأمة؟؟ وما آلية تمتيع هذه المؤسسة بهذه الضمانة دستوريا في حال الإعتداء السافر على النزاهة والمحاكمة العدالة والإنصاف والاسقلالية؟؟ وهل يقر أصلا بهذه الضمانة؟؟؟
ولنعطي نموذجا ففي الخلافة العباسية مثلا  بلغت مؤسسة القضاء من القوة ما جعلها لا تحابي أحدا، فكل الناس سواسية أمام هذه المؤسسة، خلفاء وأمراء وولاة، وعامة الناس، ومنه أن أبا حامد الإسفراييني قاضي بغداد (توفي سنة406هـ، كتب إلى الخليفة العباسي يُهدِّده بالعزل إن لم تُنفَّذ الأحكام القضائية الشرعية، ويتمّ احترامها، بل أرسل له خطابًا شديد اللهجة، جاء فيه: "اعلم أنك لست بقادر على عزلي عن ولايتي التي ولانيها الله تعالى (يقصد القضاء)، وأنا أقدر أن أكتب رقعة (رسالة، خطابا) إلى خراسان بكلمتين أو ثلاث أعزلك عن خلافتك !" عن كتاب "طبقات الشافعية الكبرى 4/64." للسبكي. ومن خلال الخطاب يتبين أن الدعامة الشعبية نتيجة المصداقية التي تتمتع بها مؤسسة القضاء هي الضمانة ضد تغول أصحاب النفوذ من سياسيين ولوبيات اقتصادية وعصابات الفساد.

محدد الشخص وليس الفرد :
إن المؤسسة القضائية ليست مجرد  مجموعة أفراد يؤدون أدوارا وظيفية بشكل آلي: أعمال تنجز ورواتب تدفع. ليست حقيبة بها رزمة مطالب، إنما هي مجموعة أشخاص تتفاعل مع قضايا أمتها تصون سيادتها تجسد خياراتها تضمن توازنها تحقق استقرارها  تقوي اقتصادها من زاوية واحدة الترجمة الفعلية للاستقلالية، تحقيقا للعدل والنزاهة. وتضحي من أجل ذلك. إنها مؤسسة جنود من طراز خاص. لهم رسالة ومشروع  يرسمون لوحاته بريشات أحكامهم ويعزفون سيموفونيته بمختلف مواقعهم وصفاتهم.
ونعطي مثلا  بقاض رسالي واع بدوره مستميت في الدفاع عن موقعه، فقد كتب المنصور أبو جعفر الخليفة العباسي إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة: انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر، فادفعها إلى القائد، فكتب إليه سوارٌ: إن البيِّنة قد قامت عندي أنها للتاجر، فلستُ أُخْرِجها من يده إلا ببينة. فكتب إليه المنصور: والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد. فكتب إليه سوار: والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجنها من يد التاجر إلا بحق. فلما جاءه الكتاب قال: ملأتُها والله عدلاً، وصار قضاتي تردُّني إلى الحقِّ!"عن تاريخ الخلفاء ص229 للسيوطي
والسؤال : كيف نخرج هذه العينة  من معاهدنا وببرامجنا؟؟؟؟
وأخيرا :
     لنجعل القضاء محطة إجماع على أسس متينة وصحيحة. كما لاينبغي أن نجعل القضاء حلبة صراع وإنما واحة يتفيأ بظلالها الجميع، يجمع ولا يفرق، يرجع الحق إلى أهله ولا يخشى في الله لومة لائم.
وحرر بتاريخ 12 ربيع الأول 1434
موافق 25 يناير 2013